بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ </A>
.
هذه السورة يبين الله -جل وعلا- فيها لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بعض نعمه عليه، فيقول -جل وعلا-:
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ </A>
وهذا استفهام تقريري؛ لأن الهمزة إذا دخلت على النفي كان استفهاما تقريريا، ومعنى ذلك: قد شرحنا لك صدرك، فالله -جل وعلا- قد شرح صدر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالإيمان والعلم والحكمة.
وقد شُق صدر نبينا -صلى الله عليه وسلم- حسا مرتين، شُق صدره -صلى الله عليه وسلم- لما كان مسترضعا في بني سعد، جاءه ملكان فشقا صدره، وملآه نورا وحكمة، ثم شُق صدره -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج، وذلك شق حقيقي.
ومن انشراح صدره -صلى الله عليه وسلم- أن شرحه ربه -جل وعلا- للدعوة وتحمل حال الخلق؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- في دعوته تحمل مشاق عظيمة، ولولا أن الله -جل وعلا- شرح صدره للإسلام، وشرح صدره لمثل هذه الأشياء لم يقم بأعباء هذه الرسالة.
ثم قال -جل وعلا-:
وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ </A>
يعني: حططنا عنك الذنب
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ </A>
يعني: أثقل ظهرك، وهذه الآية استدل بها بعض العلماء -أو أكثر العلماء- على أن الأنبياء قد يقع منهم شيء من المعاصي، ولكن المعاصي التي تقع من الأنبياء: أولا: ليست متعلقة بالبلاغ، وثانيا: ليست في الأمور التي يقتدي الناس بهم فيها، ولو حصل شيء من ذلك لنبهوا عليه، ثم إنها ليست من كبائر الذنوب، كما أنها ليست من أفعال الخسة كالزنا أو السرقة أو غيرها مما هو يعتبره الناس من أفعال الخسة.
فهم يبادرون إلى التوبة، ثم تكون حالهم بعد التوبة أحسن وأكمل، ولعل الله -جل وعلا- جعل ذلك لئلا يتوهم الناس في هؤلاء الأنبياء أنهم يماثلون الله -جل وعلا-؛ لأن الله -جل وعلا- أفعاله لا تقع إلا لحكمة، وأفعاله -جل وعلا- كلها عدل، وأفعاله -جل وعلا- كلها محمودة.
فلو أن الأنبياء لم يقع منهم ذنب مطلقا ربما توهم أتباعهم فيهم الألوهية من دون الله، فلعل الله -جل وعلا- أراد أن يقع من هؤلاء الأنبياء بعض الذنوب التي لا تتعلق بالبلاغ؛ ليعلم العباد أجمعون أن الذي تقع أفعاله لحكمة وبعدل، وتقع أفعالا محمودة، أن المتفرد بذلك هو الله -جل وعلا-.
فتأويل هذا الحديث عند بعض العلماء: أن الله -جل وعلا- غفر لهم قبل أن تقع الذنوب، وعند بعض العلماء معنى هذا الحديث: أنهم لا يموتون إلا على توبة، فهم وإن أذنبوا استغفروا وماتوا قد خلصوا من الذنوب والسيئات.
ثم قال -جل وعلا-:
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ </A>
يعني: أن الله -جل وعلا- رفع ذكر نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الرفع للذكر كان في الجاهلية، وفي الإسلام، ويكون أيضا يوم القيامة على رؤوس الأشهاد.
وهو ذكر مرفوع له -صلى الله عليه وسلم- عند أهل الأرض، وعند أهل السماء، فالملائكة يذكرونه في الملأ الأعلى
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ </A>
والله -جل وعلا- أيضا يذكره في الملأ الأعلى ويثني عليه، وأهل الأرض يذكرونه -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة، في الأذان، في كثير من الأذكار، وفي كثير العبادات، ذكره -صلى الله عليه وسلم- يجري على الألسنة.
بل ذكره -صلى الله عليه وسلم- حتى في القلوب، حتى الطاعة والعبادة التي لا يتلفظ فيها بذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن قلوب العباد تذكره؛ لأنه هو الذي دلهم على شرع الله -جل وعلا- ودينه، وكذلك هو في الآخرة يكون له الذكر الأعلى بين الخلائق؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- يكون له المقام المحمود، والشفاعة العظمى التي يشهدها الخلائق أجمعون، فيحمدونه -صلى الله عليه وسلم- بعدها، وهذا من رفع ذكره -صلى الله عليه وسلم-.
وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
لن يغلب عسر يسرين </A>
ولكن هذا حديث ضعيف، لكن ثبت عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعناه من حيث اللغة صحيح؛ لأن علماء اللغة يقولون: إن الشيء إذا عرف بالألف واللام وكرر فهو شيء واحد، وإذا نكر كان شيئين، فاليسر هاهنا نكر فكان مرتين، والعسر عرف بالألف واللام فكان مرة واحدة، فهذا دليل على أنه يكون بعد العسر يسر.
وهذه الآية وإن كانت في جميع الخلق، إلا أنه يستفاد منها أن الله -جل وعلا- ينبئ نبيه -صلى الله عليه وسلم- فيها بأن العسر الذي يحصل له من جراء دعوته للناس للرسالة، ولدين الله -جل وعلا-، سيكون بعده اليسر، وهو الفتح الذي فتحه الله -جل وعلا- على نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فأخضع له العرب، ودانت له جزيرة العرب -صلى الله عليه وسلم-.
فهذا فيه بشارة لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن هذه الكروب التي تتوالى عليه في سبيل دعوته لله -جل وعلا- سيجعل الله تعالى بعدها يسرا، كما قال تعالى:
سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا </A>
فكانت هذه الآية، أو فكان في هذه الآية معجزة لنبيه -صلى الله عليه وسلم -؛ إذ أنزل الله -جل وعلا- عليه هذه الآية قبل أن يجعل الله -جل وعلا- له اليسر.
وهذا حاله -صلى الله عليه وسلم-، فكان في جميع أحواله مطيعا لله تبارك وتعالى، حتى في مجالسه التي يجلس فيها مع الناس، إما واعظا، وإما مستغفرا -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا المعنى هو الذي يدور عليه كلام كثير من السلف؛ لأن بعضهم قال: إذا نصبت من الفرائض فالتجئ أو فارغب إلى الله -جل وعلا- بفعل النوافل، وبعضهم قال: إذا انتهيت من صلاة الفريضة فارغب إلى الله -جل وعلا- بصلاة الوتر، وبعضهم قال: فإذا فرغت من الفريضة فارغب إلى الله -جل وعلا- بالدعاء.
أي: إذا أقمت الجهاد، ودعوت إلى دين الله، ودخل الناس في دين الله، فعليك أن ترغب إلى ربك -جل وعلا-؛ لأن هذا إعلان أو إيذان بوفاته -صلى الله عليه وسلم- كما يأتي -إن شاء الله- عند سورة النصر